كتب غازي العريضي في المدن:
من نتائج زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى بعض دول الخليج، ظهور ملامح تكوّن منطقة جديدة، أساسها إعادة تقسيم النفوذ فيها بين الدول الأساسية المؤثرة، كي لا نقول تقسيم الدول نفسها في هذه المرحلة على الأقل. ربما يؤسس تقسيم النفوذ إلى تقسيم الجغرافيا هنا وهناك، خصوصاً مع ثابت أساسي في نتائج الزيارة: التفاهم بين ترامب ونتانياهو لا يزال قائماً على تهجير الفلسطينيين من غزة أولاً، ثم من الضفة، وبناء المزيد من المستوطنات والتوسّع والاحتلال الإسرائيلي. وهذا بحدّ ذاته يشكل عنصر عدم أمان واستقرار، ولو فرضت أميركا وإسرائيل مشروعهما المشترك وقبل العرب بالأمر الواقع بطريقة أو بأخرى. لبنان، رغم كل الرعاية الظاهرة أو التركيز عليه، ورصد كل ما يجري فيه، لا يزال في دائرة العناية الفائقة.
إسرائيل تستبيح كل شيء. لا تحترم اتفاقاً لوقف النار. فعلت بعد توقيعه ما لم تفعله خلال الحرب عليه، وتريد فرض شروطها. وبعض الخارج يمارس ضغوطاً متنامية على التركيبة السياسية القائمة، وعمرها لا يتجاوز الأشهر. وقد التزمت بالاتفاق، وحققت خطوات مهمة في طريق تنفيذه، لكنها لم تتلق أي دعم حتى الآن باستثناء ما فعلته قطر، بتجديد التزامها تقديم المساعدات المالية للجيش اللبناني وتأمين المحروقات اللازمة له.
رئيس الجمهورية يقوم بدور كبير، ويمارس فعلاً استيعابياً لكل مكونات البلاد. وهذا أمر مقدّر ومشكور وينبغي ملاقاته فيه، سيما وأنه لم يخرج عن أي التزام قدّمه في خطاب القسم أو في الاتفاق الذي وقّع مع إسرائيل لوقف الحرب على لبنان، وتحديداً فيما يخص حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية. والأمر لا يحصل بكبسة زر بسيطة. احتضان هذا الموقف والالتفاف حوله وطنياً مسألة في غاية الأهمية، تساهم في تعزيز الثقة بين اللبنانيين، وتثبيت الأمن والاستقرار في إطار عمل جماعي يحقق ما أجمع عليه اللبنانيون. والحكومة معنية بتفعيل حركتها لإعادة إطلاق عمل مؤسسات الدولة، بعدما أصابها من اهتراء وترهّل وإهمال واستغلال رخيص لمواقع النفوذ فيها، لمصالح شخصية أو سياسية بعيدة كل البعد عن فكرة دولة القانون والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين اللبنانيين واحترام الدستور. المهمة صعبة وثقيلة. لكن عامل الوقت ثقيل أيضاً. نحن في سباق مع الزمن أمام ما يحصل من تطورات في المنطقة، الانقسام الداخلي إذا استمر والخطاب السياسي إذا استقر على التحديات والنكايات والاستعراضات، أمر يعّرض لبنان لهزات متتالية.
يخطئ من يعتقد أن بإمكانه الاستمرار بالطريقة التي كان يفكر فيها، وبالخطاب الذي يستخدمه، وفيه من المكابرة والاستعلاء والاستقواء ما يبعد المسافات بين اللبنانيين. وما تكرّر قوله في هذا السياق في الأسابيع والأيام الماضية في مقاربة الحديث عن حصرية السلاح يصبّ في هذا الاتجاه.
ويخطئ في المقابل من يعتقد أن بإمكانه في سكرة "انتصار" على يد إسرائيل أن يصفّي حساباً في الداخل، ويشمت ويندفع في حسابات غير مدروسة، وفي خطاب يهين فريقاً لبنانياً أساسياً كبيراً مؤثراً فاعلاً، باقياً في البلد مهما تغيرت الظروف. إن تصرفاً من هذا القبيل يقع في مرتبة التهوّر والوهم، وقد علمتنا التجارب المريرة التي مررنا بها خطورة هذه الأخطاء.
في إطار إعادة تنظيم المنطقة وتقسيم النفوذ فيها، وهي لعبة أمم جديدة، يجب أن نعرف كيف نحمي لبنان ووحدته الوطنية وحدوده، وإلا سنبقى جماهير تهتف لهذا وذاك، لهذه الدولة أو تلك، آخذين بالاعتبار أن إسرائيل هي إحدى الدول المؤثرة في عملية التنظيم والتقسيم المذكورة، ولها أطماعها التاريخية في لبنان وحساباتها في تصفية الحساب معه وصولاً إلى تصفيته، دولة موحدة متنوعة لها دورها الفاعل والمؤثر في المنطقة، وأعطت العالم خيرة كفاءاتها وخبراتها. المسؤولية هنا تقع علينا وتبدو أكبر مما نتصّور وربما مما نتحمّل في هذه المرحلة، لكننا لا نستطيع الهروب منها.
لبنان تحت سقف شروط عال، ويربط مصيره ومستقبله في خريطة تنظيم المنطقة وتقسيم نفوذ دول فيها، بالتزامه بتلك الشروط، وغالبية الدول المعنية تتجاهل أو تجهل أو تتجاوز حقيقة التركيبة اللبنانية. وهذا لا يبشّر بخير. وأخطر ما لا يبشّّر بخير أيضاً هو الاندفاعات اللبنانية في هذا الاتجاه، والبلد مقبل على استحقاقات كبيرة ومهمة، فكيف إذا كانت إسرائيل تتصرف وكأن يدها مطلقة ولا أحد يوقف عدوانها؟
تساؤلات وملاحظات أولية بعد زيارة الرئيس ترامب.