كتب رأفت الظواهري:
منذ اندلاع الثورة السورية والمسيحيون التزموا الحياد من ناحية الاصطفافات السياسية (معارضة ومولاة) وحاولوا الابتعاد عن كل ما يضر بالعلاقة الأخوية -التي كانت تجمع بينهم وبين اخوتهم المسلمين- من عنف وقتل وإرهاب وتدمير وتهجير في الماضي، وحتى الآن ما يزال هؤلاء المسيحيون يطمحون لبناء أجمل العلاقات مع كافة النسيج السوري بمختلف أديانه وثقافاته.
لكن منذ لحظة سقوط النظام بدأ التخوف والرعب عند هؤلاء المسيحيين. وفي ليلة الثامن من ديسمبر من العام 2024، أي ليلة السقوط المدوية، نزح عدد كبير من أهالي المدن المسيحية بسبب الرعب والخوف من أي عمل إجرامي عدائي يطال حياتهم وحياة أبنائهم إلى أماكن تؤمن لهم الأمان والسلام. ولكن بعد أسبوع عاد السكان إلى بيوتهم بعد أن قدَّم لهم الأمن العام السوري تطمينات بالأمان، وبالحماية من أي تعدٍ.
ولكن مع مرور الوقت، بدأ التمادي من قبل أشخاص مجهولي الهوية على أهالي بعض القرى المسيحيين. وبعد المتابعة والتحقيق تنكشف هوية هؤلاء المعتدين وظهور حقيقة انتمائهم إلى فصيل هيئة تحرير الشام أو الأمن العام، لكن المفارقة هنا هي أنَّ الأمن العام في محاولاته اليائسة احتواء غضب الشارع يصرّح دائمًا بأنَّ هذه الحالات هي حالات فردية لا تنم عن حالات جماعية، ولا تعبر عن رأي الأغلبية. فما هي هذه أبرز هذه التعديات اللاأخلاقية؟
أولًا: بعد هروب بشار الأسد إلى روسيا وسقوط نظامه، ودخول الفصائل المسلحة إلى البلدات السورية ظهرت تهديدات غير مباشرة تطال الوجود المسيحي في عمق كيانه، وهذه التهديدات رأيناها علنًا مدونة على سيارات تلك الفصائل، بعبارات محملة شحنات طائفية، فكانت السيارات في وضح النهار وعلى "عينك يا تاجر" تتجول في شوارع بعض البلدات المسيحية مطلقةً التكبيرات وأهازيج النصر، مطالبين الأهالي بالفرح، متناسين العبارات الطائفية المكتوبة على سياراتهم بالخط العريض "لقائنا قريب يا عُبَّاد الصليب" ففي هذه العبارة تهديد صريح للمسيحيين بقرب مواجهة دامية من القتل والإرهاب، ناهيك عن المغالطة الدينية الموجهة للمسيحيين على أنهم عبَّاد صليب، فهم ليسوا كذلك بل هم أبناء الله، ولا يشركون أحدًا بعبادته.
ثانيًا: قاموا بوضع حواجز على مداخل ومخارج البلدات، بحجة ضبط الأمن وحماية المدنيين، لكنَّ الواقع لا يتطابق مع تلك الحجج، بل كانت تلك الحواجز سبب خوفٍ للمدنيين، بالإضافة إلى نشر حالةٍ من التضييق عليهم، فمُنِع البعض من الذهاب إلى أماكن عملهم، أو مزاولة عملهم في حقولهم وبساتينهم إن كانوا فلاحين وخصوصًا عند الأراضي الحدودية.
ثالثًا: أراد الأمن العام فصل النساء عن الرجال في باصات النقل العامة التي تنقل سكان القرى المسيحية منها وإلى مركز المدينة، فأمروا النساء بالجلوس خلف الرجال، ناهيك عن توزيع ولصق العديد من المناشير الورقية في تلك الباصات من أجل الحض على لبس الحجاب الشرعي الإسلامي والألبسة الفضفاضة.
رابعًا: قام الأمن بقرار تعسفي بعزل مختار بعض البلدات المسيحية، وهو مسيحي، وتعيين آخر من خارج البلدة، وهو سني، الأمر الذي يتعبر سابقة خطيرة في تاريخ المنطقة.
خامسًا: عمد الأمن العام إلى اعتقال العديد من الأشخاص بطريقة تعسفية، لأسباب غير محقة، ناهيك عن تعذيبهم بطريقة وحشية ودامية حتى الموت.
سادسًا: سعى بعض الأشخاص من القرى المجاورة، والمدعومين من الأمن العام، إلى إجبار بعض الأهالي على دفع مبالغ مالية طائلة جدًا، لأسباب غير محقة وغير مشروعة، وإلا سيتم سجنهم، أو قتلهم. وفي حال عدم توفر المال لدى الأهالي، ينهجون سبيل الهروب إلى مكان آخر طلبًا لحياة أخرى أكثر عدلًا وأمانًا.
سابعًا: قامت مجموعات إرهابية، مجهولة الهوية بتخريب العديد من الأديرة، ناهيك عن إطلاق الرصاص عدة مرات متواصلة على بعض الكنائس.
ثامنًا: تواجد الكثير من المقاتلين الأجانب في صفوف الأمن العام وما يعرف بالجيش السوري الجديد (هيئة تحرير الشام) من أفغانستان وشيشان.. الخ. هذا الأمر مدعاة للقلق على مستقبل سوريا، فهؤلاء المقاتلين إنما أتوا إلى سوريا بهدف الجهاد والقتال لأسباب دينية، ولأسباب اقتصادية.
الخاتمة
كل هذه الأمور هي فعلًا مدعاة للقلق والخوف والرعب، وهذا الأمر لا يبعث على طمأنينة، فنشر هذه الحالة إنما هو إرهاب من نوع آخر، يهدف إلى أسلمة كل المنطقة، بطريقة ممنهجة وبأسلوب تدريجي، خطوة تلو الأخرى، وما على المجتمع الضعيف إلا تقبلها رغمًا عنه ضمن سياسة الأمر الواقع. فما ينفع إن تم تحسين الواقع الاقتصادي، والخدمي إن لم يكن هناك حالة من الطمأنينة والسلام والحرية في المجتمع؟ يبقى السؤال الكبير الذي يجب أن يطرح في هذه المرحلة، هل كل هذه الأمور هي تنفيذ للتهديد الذي صرّحوا به جهارًا، بقتل العلويين وتهجير المسيحيين من سورية، وهنا نستذكر العبارة الشهيرة التي تلخص كل ما رود ذكره "العلوي ع التابوت والمسيحي ع بيروت"؟ هل سيشرعون بتنفيذ مشروعهم ذاك الذي بدأوه عام 2012، وإلى متى سيبقى حلم كل سوري بالأمان والطمأنينة والعيش الكريم بعيد المنال؟ إلى متى يبقى هذا الرعب عند الأطفال، والخوف عند النساء، والقلق عند الرجال؟