كتب رفيق خوري في نداء الوطن:
سوريا اليوم ليست سوريا التي كانت قبل حكم البعث عام 1963. لكن "سوريا الأسد" حيث القمع والعنف والمجازر هي الوجه الآخر لـ "سوريا تحرير الشام" حيث المجازر والتطهير الطائفي على أيدي الفصائل الجهادية. وما تغير هو فقط هوية القتلة والضحايا: من مجزرة حماة إلى مجازر اللاذقية. منذ الاستقلال في أواسط الأربعينات كانت الأحزاب وطنية سواء منها الشيوعي والإشتراكي والقومي السوري واليميني المحافظ. والأضعف بين الأحزاب هو "جماعة الإخوان المسلمين". وفي النظام الديمقراطي البرلماني كان يمكن أن يتولى فارس الخوري رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة وحتى منصب وزير الأوقاف. فهل كان ذلك مجرد ظاهرة على السطح أم حقيقة اجتماعية وسياسية في العمق؟ ما كشفه الواقع، بسبب أحداث وتدخلات خارجية أو نوازع داخلية، أن سوريا والعراق واليمن ومعظم البلدان العربية هي "لبنان مستتر". فالطائفية في لبنان معلنة ومدارة دستورياً، وفي البلدان الأخرى مغطاة بخطاب وطني.
ولا فضل لتنظيم على آخر في الخوف من الآخر والتخويف به. ولا أحد يجهل ما الذي جعل سوريا "ساحة" للصراعات الإقليمية والدولية وقاد التنظيمات الجهادية إلى اللعبة القاتلة. فحين بدأت ثورات ما سمي "الربيع العربي" كانت الثورة في سوريا وطنية مدنية سلمية، لكن النظام اختار القمع والقتل وتحويل الثورة إلى حرب. وفي الحرب يتقدم المتشددون على المعتدلين، ويصبح التطيف والتطرف اللعبة الوحيدة في المدينة.
جاء النظام بالحرس الثوري الإيراني و "حزب الله" في لبنان والفصائل العراقية المرتبطة بإيران، وكلها قوى مذهبية شيعية. وبالمقابل تعددت الفصائل السلفية الجهادية السنية، وتقدم تنظيم "القاعدة" ثم "داعش". ومن "القاعدة وداعش" جاءت "جبهة النصرة" التي صارت "هيئة تحرير الشام" ضمن صراع اتخذ في العمق طابعاً دينياً وطائفياً، وتركز على "رفض كل مؤسسات الدولة الحديثة من دستور مدني وانتخابات ديمقراطية" حسب الطبعة القديمة للجولاني. كما كان الرأي الشرعي النافذ للسلفي الجهادي عبد الله المحيسني، هو إعطاء الأولوية لقتال "العدو الصائل" أي العدو الداخلي.
ثم جاء التدخل العسكري الروسي لإنقاذ النظام المهدد بالسقوط "خلال أسبوعين" حسب وزير الخارجية سيرغي لافروف، وقيل إن قائد فيلق القدس قاسم سليماني هو الذي طالب الرئيس فلاديمير بوتين بالتدخل. ويروي والي نصر في كتاب جديد عنوانه "استراتيجية إيران الكبرى" أن سليماني كان يقول "الجيش السوري غير نافع. وأعطني فرقة من الباسيج وسوف أحتل سوريا بكاملها". لكن ضباطاً من الجيش السوري المسرّح أسسوا "مجلساً عسكرياً" وتنظيمات لتحرير سوريا، وقادوا هجوماً منظماً في محافظتي اللاذقية وطرطوس. وهم قتلوا أفراداً تابعين للأمن العام لدى الإدارة الجديدة التي ردت بحملة واسعة مع استنفار ودعوات في الجوامع بحيث جاءت مجاميع سلفية متعددة وارتكبت المذابح ضد مواطنين علويين ومسيحيين. صدام طائفيات.
وليس أخطر من الفوضى والفلتان سوى الاستئثار بالسلطة على يد فريق أصغر من سوريا. فلا "عدالة انتقالية" مطلوبة بل "لا عدالة انتقائية" مرفوضة. ولا جيش وقوى أمن بل فصائل مسلحة سلفية أعطيت ثياب الجيش وقوى الأمن. والمسافة بعيدة بين خطاب الرئيس الانتقالي أحمد الشرع وبين سلوك أنصاره وإمساكهم بكل مفاصل السلطة. ولا ضمان لمستقبل سوريا من دون سلطة تعكس التنوع والتعدد في المجتمع السوري. ولا درع حماية للبلد من محاولات إعادة عقارب الساعة إلى الوراء إلا الحكم الشامل. والدروس ليست مجانية. والوقت من دم.
وقديماً قال الجاحظ: "القسوة رأس الخطايا".