كتبت “الأخبار”:
لا تخرج زيارة الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليسدس لبيروت اليوم عن سياق التطوّرات التي تعصف بقبرص، الداخلية منها والمرتبطة بالعوامل الخارجية، وبالدور الذي تبحث عنه سلطات البلاد على صعيد الإقليم في محاولة لدرء المخاطر.فالجزيرة الملاصقة والمرتبطة مصيريّاً بالتطوّرات على الشاطئ الشرقي للمتوسّط، باتت عرضة منذ سنوات للتهديد مع اندلاع الحرب السورية، وموجات اللجوء من سوريا ولبنان. وتحوّل بحرها إلى قبرٍ لعشرات وربّما مئات من النازحين الهاربين من الموت والجوع، وبرّها إلى تجمّع للسوريين الذين ينشدون الوصول إلى أعماق القارة الباردة.
ومن قلب أوروبا إلى قبرص، يجد اليمين المتطرف في عنوان اللجوء سلّماً للوصول إلى السلطة، يدفع بالمسؤولين الأوروبيين (والقبارصة) إلى تدارك ما يرونه مخاطر سياسيّة، من دون تغييرات فعلية أو جذرية تجاه ملفات المنطقة.
وفي حين، تتهدّد نيقوسيا عدوانية تركيّة وتحضيرات حربية صامتة ومعلنة، بالتوسع جنوباً بعد حملة التتريك في الجزء الشمالي من الجزيرة، تحوّلت قبرص أيضاً إلى محطّة عمل للإسرائيليين، وباب للولايات المتّحدة لتسويق وهم «الميناء العائم» حتى تستكمل إسرائيل ذبح أهالي غزّة وتجويعهم.
فهل جاء الرئيس القبرصي لبحث حلٍ جدّي للملفّات المشتركة مع لبنان، أم لإكمال ما بدأته الصحف القبرصية قبل أيام من هجوم على لبنان؟ بكل الأحوال، وبانتظار ما سيحمله الرئيس اليوم، يمكن تسجيل عدّة نقاط حول استمرار المقاربة الأوروبية تجاه ملف النازحين بشكل عام في لبنان، وتجاه سوريا. من دون أن يعني ذلك الجزم بالموقف القبرصي، الذي كشفت زيارتا وزير الخارجية القبرصي وقبله مدير الاستخبارات (الذي يتولّى ملفّ الحدود البحرية المشتركة بين نيقوسيا وبيروت ودمشق)، جانباً يمكن البناء عليه للوصول إلى تفاهمات مشتركة.
أوّلاً، تستمر محاولات الدول الغربية وبشتى الوسائل، بالضغط على لبنان للتعامل مع اللاجئين السوريين بالمنطق الأمني عبر اتخاذ الإجراءات العسكرية والأمنية لمنعهم من الوصول إلى شواطئ أوروبا، وبإعادة من يتم القبض عليهم في البحر. وعلى مستوى الدعم الإنساني والمالي، فإن الخطط الحالية لا تخدم أبداً أي مشروع لعودة النازحين إلى بيوتهم، بل إلى تثبيت بقائهم في لبنان، لأسباب سياسية محضٍ، تتعلّق بالموقف من سوريا، وبحماية أوروبا من نازحين غير مرغوب بهم وانتقاء أصحاب المعارف والحرف والشهادات لخدمة سياسات الاندماج وسوق العمل.
هذا المنطق يعبّر عن المعايير المزدوجة الفاضحة في مقاربة مسألة اللجوء والنازحين السوريين. فدول أوروبا الغربية إجمالاً، تتعامل مع القانون الدولي الإنساني وفقاً لمصالحها. وهي لا تخجل من طرح فكرة الترحيل القسري، حتى وصل الأمر برئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك إلى طرح خطة ترحيل إلى رواندا، أو إنشاء مخيمات تجمّع على شاكلة سجون لتتمّ «فلترة» النازحين كما تفعل ألمانيا، واستقبال «المناسبين» منهم وإعادة «غير المناسبين» مع رشوة أربعة أو خمسة آلاف يورو للعودة إلى بلادهم، بينما يُمنع على لبنان اتخاذ أي إجراء بالتنسيق مع السلطات السورية. وهذا لا يعني أن خطوة الترحيل القسري من قبل لبنان تشكّل حلّاً، بل على العكس من ذلك قد تسبب انفجاراً داخلياً، لكن مبدأ الغربيين في هذه الحالة هو الكيل بمكيالين.
قانون «منع التطبيع مع نظام الأسد» الذي يعدّه الكونغرس ينذر بمزيد من موجات الهجرة إلى لبنان
وبدل أن تساهم الدول الغربية في عملية الإعادة الطوعية إلى سوريا، تمارس مفوّضية شؤون اللاجئين ضغوطها إلى جانب منظمات مدعومة من الخارج للتهويل من العودة إلى سوريا بذريعة الخطر الأمني من الدولة السورية على العائدين.
ثانياً، في الوقت الذي تستشعر فيه دول الجنوب الأوروبي بالخطر، تستمر الدول الغربية الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، بالنظر إلى الملف السوري من زاوية العداء للحكومة السورية، عبر فرض مزيد من العقوبات الجائرة على الشعب السوري ودعم المجموعات الانفصالية في الشرق بما يحرم الدولة من مواردها ويضرب الاقتصاد السوري، ورفض أي تعديل في الموقف قبل «تغيير النظام» من خلف القرار 2254. وبينما يطالب الأوروبيون الحكومة السورية بوقف الخدمة الإلزامية في سوريا، يشجعون على عسكرة المستوطنين في فلسطين المحتلة، وعلى عودة دولهم إلى الخدمة الإلزامية على خلفية الحرب الروسية – الأوكرانية.
ثالثاً، في حين يسعى الرئيس القبرصي إلى نقاش ضبط البحر مع لبنان كأولوية في زيارته للبنان، تستعد سوريا للنتائج الكارثية للقانون الذي يعدّه الكونغرس الأميركي تحت عنوان «منع التطبيع مع نظام الأسد» في الأشهر المقبلة، بما ينذر بمزيد من موجات الهجرة إلى لبنان وأوروبا. أما لبنان، فيئنّ هو الآخر تحت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، بينما تزداد العصبيات الطائفية والمذهبية فيه والنزعات العنصرية ضد النازحين السوريين جراء التنافس على سوق العمل وعلى الموارد وفي سياق الأجندات السياسية الداخلية، ومن تصاعد نقمة النازحين على اللبنانيين.
أزمة النزوح السوري واللجوء إلى قبرص، لا تُحل في لبنان وحده، إنّما يبدأ الحل من عواصم الغرب لتغيّر سياساتها تجاه سوريا ولبنان. وبدل أن يأتي الرئيس القبرصي للضغط على لبنان إن صحّت المعلومات، فالأفضل العمل مع بروكسل، ومع اليونان ومالطا وتشيكيا وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا على تعديل سياسات الاتحاد الأوروبي تجاه المنطقة، وثني الأميركيين عن فرض مزيد من الضغوط والعقوبات، وإلّا فلتستعد دول الجنوب الأوروبي لموجات هجرة جديدة، ولن يكون باستطاعة الحلول الأمنية أن تضبط البحر مع استمرار تحلّل الدول والاقتصاد في هذا الشرق المظلوم.