كتبت كارين عبد النور في نداء الوطن:
إستهلّ وزير الصحّة في حكومة تصريف الأعمال، الدكتور فراس الأبيض، الأسبوع الحالي بزيارة رسمية إلى فرنسا. والتقى هناك المكلّف بشؤون الصحّة الفرنسي للبحث في أطر التعاون القائم بين البلدين، كما في طُرق تنمية القطاع الصحّي اللبناني وتنظيم آلية تطويره وتمويله. خطوة كانت لتوصف بالـ»مشكورة» لولا أنّ «عِلل» القطاع «منّو وفيه». فالسلوك غير المسؤول ما عادت تصلحه مبادرات خارجية، إنما يقظة ضمير داخلية.
«تحمُّل المسؤولية وقت الأزمات واجب تجاه الوطن والمجتمع، وهي أمانة يُسأل عنها أحدنا دنيا وآخرة. الصحة حقّ، والناس يهمّهم ما سوف يفعله المرء لحلّ مشاكلهم، وليس ما فعله من قبل، وهذا مفهوم». بهذه الكلمات توجّه الأبيض إلى الشعب اللبناني بعد تعيينه وزيراً للصحّة في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في أيلول 2021.
مرّ عامان ونصف مذّاك. ومن حقّ اللبنانيّ أن يسأل عن مصيره الصحّي وسط فضائح الدواء المزوَّر وانقطاع أدوية الأمراض المستعصية وازدهار السوق السوداء؛ ومن الواجب إطلاع المجتمع على أسباب عدم تفعيل دور المختبر المركزي وانحلال مراكز الرعاية الصحية الأوّلية تحت مظلّة المحاصصة الحزبية؛ وتتطلّب الأمانة أن يعرف الرأي العام لماذا تمّ تلزيم المستوصفات إلى جمعيات خاصة موزَّعة بين الأحزاب ضمن صفقات مشبوهة؛ ويهمّ الناس أن تفهم دواعي تخطّي تطبيق قانون الشراء العام في المستشفيات الحكومية وعدم تعيين مجالس إدارية فيها، الأمر الذي أدّى بها إلى هذا الدرك الخطير.
وإذا كانت محاسبة الآخرين تبدأ بمحاسبة الذات، فقد يكون لزاماً على الوزير الأبيض - الذي عُيّن (قبل تسلّمه الوزارة) رئيساً لمجلس إدارة مستشفى رفيق الحريري الحكومي (ومديراً عاماً) في مخالفة فاضحة للقانون، وضرب عرض الحائط بقواعد تعيين مستشاريه بعد تولّيه منصبه الوزاريّ - أن يسعى جاهداً إلى ترميم البيت الداخلي قبل توسيع الشراكات الخارجية. وننطلق من هنا.
تعيين «على القياس»
البداية من مستشفى الحريري الحكومي وتحديداً في شباط 2015، حين تقدّم رئيس مجلس إدارته ومديره العام، فيصل شاتيلا، بالاستقالة من منصبه، ما اضطرّ وزير الصحة آنذاك، وائل أبو فاعور، التوجّه إلى مجلس الوزراء لطلب تعيين بديل عن شاتيلا. وبعد شهرين، في نيسان 2015، صدر المرسوم الرقم 1885 القاضي بتعيين الدكتور الأبيض رئيساً متفرّغاً لمجلس إدارة المستشفى، ومديراً عاماً له لمدة ثلاث سنوات. ظنّ الجميع أن ما قام به أبو فاعور هو الخطوة الأولى من الخطة الإنقاذية التي ستنعش كافة المستشفيات الحكومية. لكن ما لم يدركه البعض أن أي خطة لا تطال رأس الهرم والمستشارين كما جميع كوادر المستشفى، ولا تهدف إلى محاسبة المسؤولين، تبقى عرجاء.
تعيين الأبيض أحاطت به شكوك كثيرة. فقد تبيّن أنه، من بين الـ13 مرشحاً الذين قُبلت ملفاتهم لملء مركز رئيس مجلس إدارة المستشفى، كانت هناك أسماء لا تستوفي الشروط، ومنها اسمه. فالوظيفة المنصوص عنها في المرسوم رقم 7515 تقضي بأن يكون المرشح حائزاً على شهادة طبّ ومتمتّعاً بخبرة ثلاث سنوات على الأقل في إدارة المستشفيات. أما الأبيض، الحائز شهادة في جراحة المنظار والسمنة من الجامعة الأميركية في بيروت، فلم تتضمّن سيرته الذاتية أي عمل إداري داخل المستشفيات. أضف إلى ذلك أن تعيينه أغفل منذ البداية بنداً مهماً من بنود النظام العام للمؤسسات العامة (المرسوم 4517 تاريخ 13/12/1972) والذي يشترط ألّا يكون لرئيس مجلس إدارة المستشفى ولأقاربه منفعة شخصية في عمل المؤسسة. في حين أن الأبيض هو ابن خال المدير العام السابق للمستشفى، الدكتور وسيم الوزان. «حصلت ترتيبات فُصّلت على قياسه، خصوصاً أنه محسوب على تيار «المستقبل». حتى أن المرشحين كانوا يعلمون نتيجة التعيين سلفاً»، كما تخبرنا مصادر مواكِبة.
سلسلة مخالفات
انتهت ولاية الأبيض في العام 2018 غير أنّه بقي في منصبه خلافاً للقانون، إلى أن عُيّن وزيراً للصحة في أيلول 2021. عندها، اعتُبر بطبيعة الحال بحكم المستقيل. وبدلاً من أن يتوجّه إلى مجلس الوزراء لتعيين رئيس مجلس إدارة جديد خلفاً له، بالطريقة نفسها التي تمّ تعيينه بها بعد استقالة سلفه، قام بتشكيل لجنة إدارية للمستشفى تضمّ مديراً وأعضاء. وهكذا، صادر الأبيض صلاحيات مجلس الوزراء والخدمة المدنية والتنمية الإدارية حيث شرّع بدعة اللجان كبديل عن المجالس الإدارية، تغطية للمحسوبيات المتحكّمة بمفاصل المستشفيات الحكومية. وحين طُلب منه فتح باب الترشيحات لتأليف مجلس إدارة، جاء الردّ: «لا أريد أن أفتح هذا الباب على عهدي».
حتى الساعة، ومن الناحية القانونية، يُعتبر الأبيض مستمرّاً في منصبه في المستشفى. ذلك أن الاستقالة الرسمية تفرض قيام مجلس الوزراء بتعيين خلف له وهذا ما لم يحصل. لماذا؟ «لكي يحفظ الوزير مركزه في المستشفى بعد انتهاء عهد الحكومة»، بحسب المصادر نفسها. ولم تتوقّف الأمور عند هذا الحدّ. لا بل قام مجلس إدارة المستشفى، في خرق واضح للقانون كونه لا يملك الصلاحية، بتفويض الدكتور جلال الناطور بمهام رئيس مجلس الإدارة والمدير العام. وبعد يوم واحد من تفويضه، قام الناطور بتعيين رئيسة مصلحة التمريض، وحيدة غلاييني، مساعدة المدير العام لشؤون إدارة المستشفى. علماً بأن هناك رؤساء مصالح وموظفين أعلى رتبة منها وأنها لا تستوفي الشروط التي تفرضها مهمة الإدارة العامة. فهي ليست طبيبة ولا حتى مجازة في إدارة الأعمال أو الاقتصاد. كل ذلك بمباركة الوزير الذي اضطرّ إلى تشكيل لجنة إدارية مؤقتة لإدارة المستشفى بعدما تقدّم مجلس الإدارة باستقالته. فهل هكذا تُحفظ الأمانة التي تكلّم عليها؟
مستشارون «مشبوهون»
لم يكتفِ الأبيض بأن يكون عرّاب المخالفات التي حصلت بعده في المستشفى – وهو نهج خطته معظم المستشفيات الحكومية الأخرى - إنما حوّل وزارة الصحّة إلى وزارة خدماتية إرضاء للطوائف والأحزاب عبر سحب بعض موظفي مستشفى الحريري وتعيينهم في فريقه الاستشاري داخلها. فراح هؤلاء يتقاضون رواتبهم من المستشفى لقاء تأدية خدمات استشارية في الوزارة وفّرت لهم، ولا تزال، مبالغ طائلة من خلال السمسرات التي تشهد عليها أروقة الوزارة إضافة إلى المشاريع التي تموّلها المنظمات الدولية. «حدا بيصرلو يكون مستشار وبيقول لأ. إذا الوزير حطّنا، مين بيسترجي يحاسبنا»، على حدّ قول أحد المستشارين. ويبقى السؤال: كيف قبلت إدارة المستشفى أن ينتقل موظفوها إلى الوزارة، وكيف تنازل الوزير عن مبدأَي الإصلاح والشفافية اللذين وعد بهما متسبّباً في هذه الفوضى العارمة؟
وهذه جولة سريعة على بعض هؤلاء المستشارين. نبدأ بمسؤول وحدة التحصيل في المستشفى، باسم غانم، والمحسوب على الحزب التقدّمي الاشتراكي. وبحقّه العديد من الشكاوى لدى التفتيش المركزي والنيابة العامة المالية منذ أن كان مستشاراً، خلافاً للقانون أيضاً، في عهد الوزير أبو فاعور.
أما رئيسة قسم محاسبة المرضى والصناديق في المستشفى، إليسيا عريجي - فهي «البنت المدلّلة» لدى وزير الصحة السابق، سليمان فرنجية، الذي فرض توظيفها في عهده، وقريبة الرئيس السابق للحزب القومي، الراحل جبران عريجي - التي يلقّبها البعض حالياً بـ»وزيرة الظل» نظراً للحماية السياسية التي تتمتّع بها. وقد ارتبط اسمها باسم منى البعلبكي بعد فضيحة استبدال أدوية السرطان بأخرى مزوّرة في العام 2018، فعوقبت بكسر رتبتها من الثالثة إلى الرابعة. غير أنها بقيت في المستشفى إلى أن اختارها الأبيض مستشارة له في الوزارة.
نبقى مع المستشارين القانونيين، وتحديداً المحامي عمر الكوش المتعاقد مع المستشفى لتقديم استشارات قانونية في مخالفة فاضحة للنظام العام للمؤسسات الذي يمنع التعاقد مع استشاري قانوني كون الوظيفة ملحوظة في ملاك المستشفى. فهو مثال صارخ على تضارب المصالح، حيث يشغل منصب منسّق عام لبيروت في تيار «المستقبل»، مستشار المستشفى القانوني، ومستشار الوزير الذي عيّنه أيضاً مديراً لمكتبه.
ثم هناك جورج يونس. المستشار القانوني السابق لمستشفى الحريري الذي أصدرت الهيئة العليا للتأديب قراراً في العام 2019، منعت فيه المستشفى من التعامل معه وطلبت من وزيرَي الصحة والعدل اتّخاذ الإجراءات المناسبة بحقّه بعد أن تبيّن أنه منتحل صفة محامٍ وغير حائز شهادة بالحقوق. فكانت مكافأته تعيينه من قِبَل الأبيض مستشاراً له.
تفعيل الرقابة... ممنوع؟
ومن المستشارين أيضاً، سهيل ريّا التابع لحركة «أمل»، الذي عيّنه الأبيض مستشاراً له عن شؤون المستشفيات الحكومية. وهو تعيين يفتح باب التساؤلات مجدّداً حول أسباب عدم تفعيل دور دائرة الرقابة على المستشفيات الحكومية في الوزارة، والتي يُفترض أن تكون مسؤولة عن شؤونها - أي المستشفيات. ورغم أنها أنشئت سنة 2004، إلّا أن الوظائف داخلها لا تزال شاغرة. الحظر على اتصالاتنا ما زال مفروضاً من قِبَل معاليه. فنذهب إلى رئيس الهيئة الوطنية الصحية الاجتماعية، الدكتور اسماعيل سكّرية، الذي أشار إلى أن انهيار الدولة ومؤسّساتها أصاب أجهزة الرقابة بشلل تام. «حتى لو تفعّلت، فستكون مخروقة كما في السابق. لكنّ الأهم هو منع دائرة الرقابة على المستشفيات الحكومية من أن تقوم بدورها لأنها ستكشف الواقع الحقيقي للمستشفيات الحكومية التي جرى تقسيمها محاصصتياً وسياسياً وطائفياً».
سكّرية الذي رأى أن لا حاجة بعد اليوم لمعظم المستشفيات الحكومية، بل لمستشفى مركزي واحد في كل قضاء يُربط بمؤسسة أكاديمية - جامعيّة لتكون له نكهة طبّ وعِلم حقيقي، أسف لاستمرار نهج المحسوبيات نفسه داخل وزارة الصحة، لناحية عدم تعيين مجالس إدارة للمستشفيات الحكومية. «حين تتكلم السياسة يُستباح القانون ومؤسساته. تراكمات الفساد في القطاع الصحي بقيادة وزارة الصحّة، وتفخيخ الوزارة بالفاسدين الذين يبحثون عن مصالحهم الشخصية قبل تطبيق القانون والسهر على تطوير دور الوزارة الرعائي القيادي للقطاع الصحي، كما الانهيار الاقتصادي، جميعها عوامل جعلت الحلول العادية غير نافعة. المطلوب اتّخاذ إجراءات استثنائية تليق بالوزارة وتتناسب مع الواقع الراهن».
على أي حال، المناورة الصحّية التي نظّمها مستشفى سبلين الحكومي في قسم الطوارئ الأسبوع الماضي تحسّباً لأي طارئ أمني، بحضور الوزير الأبيض، أدرجها مراقبون في خانة «الاستعراضات الشعبوية» التي لم تعد تجدي نفعاً. في حين اعتبرها آخرون مناورة «حزبية - مناطقية» بحتاً، كون الجنوب معرّضاً أكثر من سواه لأي اعتداء خارجي. لذا، قد يكون من الأجدى التعاطي مع المرحلة الحالية بكثير من الوعي، فتكون «النفضة» داخلية بالدرجة الأولى، كما يتابعون. أما تنقية الوزارة والمستشفيات الحكومية من موظفي «المحسوبيات» وإعادة أصحاب الكفاءة الذين صدرت بحقّهم قرارات تعسّفية لإقصائهم، فحاجة ماسة. كما أن تفعيل دور الأجهزة الرقابية الصحية بوجه السلطة (بمكوّناتها الطائفية والحزبية) لا يقلّ إلحاحاً. قرارات جريئة تتطلّب مسؤولين استثنائيين. لكن أين القطاع الصحّي من ذلك؟